الصناعة العربية
وتحديات نقل التكنولوجيا
لا تزال عملية نقل التكنولوجيا من البلدان الصناعية إحدى الإشكاليات الرئيسة التي تواجه الأقطار العربية في عملية التنمية، لأنها وإن كانت قضية تهم الطرفين، المصدر للتكنولوجيا، والمستورد لها في نفس الوقت، حيث يسعى الطرفان من وراء تعاقدات النقل لتحقيق أكبر قدر من العائد، وأعلى مستوى انتفاع ممكن من وراء عملية نقل التكنولوجيا، إلا أن القوة التفاوضية لا زالت تميل بشكل واضح لصالح المصدر في السوق العالمية، لأسباب تقنية، واقتصادية، إضافة إلى مسألة الاحتكار، وخاصة للتقنيات المتطورة.
كما أن التقدم السريع في توالد أجيال متلاحقة من التكنولوجيات الجديدة في السوق العالمية، بات يتعدى حدود مجرد ما يحصل عليه المستفيد من منفعة تتعلق بحزمة التقنية الجديدة التي يستوردها، الأمر الذي شكل تغييرا جذريا في طرائقيات التعامل مع نقل التكنولوجيا وتكوين المعارف، واكتسابها عند نقلها، حيث أصبح الأمر بجانب إشكالات الاختيار والاستيعاب، يتطلب معايير مضافة لرصد سرعة التغيرات في سوق التكنولوجيا، ومواكبتها بكفاءة، وما يترتب على هذا الواقع الجديد من تحديات جديدة تتعلق بمهارة الاختيار الملائم، مرورا بالاستيعاب اللازم، بقصد التمكن من التشغيل الأمثل بموجب معايير المصنع، ترشيدا للأداء التقني، وإقلالا للضياع، وتعظيما للمنفعة، وبالتالي زياد العائد على رأس المال المستثمر في التوريد.
ولا شك أن نقل التكنولوجيا سيظل أحد التحديات الرئيسة للدول العربية النامية ليس مرحليا فقط، بل لأجل قد يطول، باعتبار أن التقنية الحديثة هي من بين أهم وسائل تحقيق التنمية والازدهار، لتجاوز التخلف، والوصول إلى الاكتفاء الذاتي، في مختلف العلوم والمعارف والتقنيات، لاسيما في عصر يتجه فيه الاقتصاد الدولي اليوم نحو الانفتاح الاقتصادي التام، وعولمة اقتصاد المعرفة القائم على المهارات، الأمر الذي سيزيد من حدة المنافسة، ويصبح امتلاك التقنية المتطورة نقلا، واستيعابا، وتوطينا، ومن ثم إعادة التفريخ، وصولا إلى مرحلة التصنيع التام بجهد وطني صِرف، عنصرا حاسما في القدرة على النمو، والتطور، والاستقلال، وهو حال تفتقر إليه الدول النامية عموما في الوقت الحاضر، حيث لا زالت تعاني من التبعية بكل أشكالها، بما فيها التبعية التكنولوجية.
على أنه ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن نقل التكنولوجيا الجديدة لا يكفي في حد ذاته لتحقيق التقدم، والنهوض من واقع التخلف، الذي تعيشه كثير من بلدان العالم النامي، ومنها بالطبع الأقطار العربية، ولكن الحراك العلمي والفني المتواصل داخل المجتمع نفسه، وبالتفاعل الخلاق مع العالم الخارجي، هو الذي يحول المعلومات إلى معرفة جديدة، وينمي التراكم المعرفي مع الزمن، حيث يفترض أن يؤدي ذلك التراكم إلى تغيير نوعي في طرائق تكوين المعارف، واكتسابها عند نقلها، وصولا إلى مرحلة الشروع بإبداعها، وتصنيعها في مرحلة لاحقة.
ولا بد من الإشارة الى أن العوامل الاجتماعية، والثقافية، والبيئية، تؤثر على التكوين التكنولوجي وتتأثر بها، وذلك لأن التقنية هي ثقافة بيئة متفاعلة مع عناصر المعرفة المادية، ومكوناتها الصناعية. فاستخدام التكنولوجيا الجديدة لا بد أن يكون له أثر على ثقافة، وأفكار الناس الذين يتفاعلون معها، وما يمكن أن يصحب ذلك من عادات، وسلوكيات فردية، وجماعية تتلائم مع معطياتها الجديدة، وتتكيف معها بشكل مناسب. وعلى ذلك فلا مفر من إعطاء العوامل، والشروط الاجتماعية، والثقافية، الاهتمام الكافي، واستحضارها بوضوح في عملية نقل التكنولوجيا الجديدة.
وإذا كان من بين أهم العقبات التي تواجه عملية نقل التكنولوجيا إلى دول العالم النامي، تفشي الأمية التكنولوجية، والعجز الواضح في الكوادر الفنية القادرة على الاستفادة القصوى من التكنولوجيا، وتقليص الضياع فيها، لأسباب كثيرة في مقدمتها هجرة الكفاءات العربية، ناهيك عن إصرار الدول الصناعية المتقدمة المالكة للتكنولوجيا على أن تظل الدول النامية مستهلكة للمعرفة، ومستوردة للسلع الصناعية، وقطع الغيار، والتقنيات في حدود الدور المرسوم لها سلفا كسوق رائجة لتصريف بضائعها، بقصد تعظيم أرباحها، وتنشيط صناعاتها، ورواج اقتصاداتها، فإنه يلاحظ عدم وجود معايير تكنولوجية، وأنظمة واضحة في سياسات نقل التقنية في البلدان النامية، تضمن نقل التقنية الجديدة المناسبة تماما لحاجات المستورد، مما يقلل من القدرة على توطينها، ويعرقل مرونة تطويرها لتتلاءم مع مقاصد عملية النقل، خاصة وأننا إزاء قلة مراكز البحوث والتطوير الوطنية المتفاعلة مع مثيلاتها في الخارج، والتي تساعد على تحقيق أهداف نقل التكنولوجيا الحديثة بكفاءة. ولعل غياب التعاون والتنسيق بين القطاع الصناعي الوطني، والمؤسسات العلمية والأكاديمية بسبب عدم وجود استراتيجية تعشيق واضحة المعالم، هو الآخر معوق كبير مضاف في هذا المجال.
وحيث إن مؤشر نقل التكنولوجيا وتوطينها، يعد من بين أحد اهم مؤشرات التقدم الحضاري لأي دولة نامية، والذي يضعها في الإطار الصحيح ضمن خطط وسياسات العلوم والتقنية لها، بحيث يمكن من خلالها تحديد تقنية معينة بذاتها تلائم إمكاناتها، وظروفها المحلية، واحتياجاتها الحقيقية، وتخصيص الدعم المالي حتى يتم نقلها، واستيعابها، والتمكن من تطويرها، فإن الأمر يتطلب بالإضافة لمواجهة تلك التحديات، العمل على أعادة النظر في ستراتيجية التعامل مع أساليب نقل التقنية الصناعية باعتماد طريق جديد، يستهدف بناء قاعدة تكنولوجية وطنية خالصة، ويتجاوز الإبقاء على مجرد الأسلوب التقليدي المحصور في توريد المكونات المادية منها وحسب، وذلك من خلال الشروع بالتخطيط لعملية تنمية اقتصادية، وصناعية شاملة، تتطلع إلى توطين التكنولوجيا المنقولة، وتبادل المعرفة المتراكمة، وتطويعها وفقا للخصوصيات الوطنية العربية، واستهداف خلقها في مرحلة لاحقة، ضمن سقف زمني منظور، بحيث يترك التمثل المعرفي العربي الناشئ للتقنية بصمته التصنيعية الوطنية عليها، كلا أو جزءا، بشكل ملموس.
ولا جرم أن بناء قاعدة تكنولوجية عربية مستقلة، يستوجب مزاوجة الخبرة الوطنية المتراكمة لدى الأطر، والكفاءات الصناعية العربية، وتبادل الخبرات بين العاملين في القطاع الصناعي العربي، ومراكز البحث أكاديمي،وتغذيتها في نفس الوقت، بمعايير، ومواصفات المعرفة الام القياسية التي أبدعها التقدم العلمي العالمي بموجب عقود الانتفاع التي يتفق عليها،بقصد الاستفادة منها في استنبات التكنولوجيا الوطنية الخاصة بتلك الصناعة، والتخلي التدريجي عن مجرد التعكز على الاسقاط بالتوريد المجرد الذي طبع المرحلة السابقة ببصمته، باعتبار أن التقدم الصناعي ليس مجرد توريد للمكائن، والمعدات الحديثة وحسب، ولكنه في الحقيقة، تمثلها، واختراعها، والعمل على تصنيعها، بعد تهيئة القاعدة الصناعية اللازمة لذلك.
وبالرغم من الصعوبات التي تعترض مثل هذا التوجه، بسبب تقييدات الاحتكار، وضوابط حقوق ملكية براءات الاختبار، وأجواء سياسة الخصوصية التي تحيطها بها الشركات العابرة للحدود، إلا أن التركيز على اعتماد مبدأ البحث الميداني لاستكشاف المثالب، وحصر المعوقات، واعتماد نهج التطوير اللازم في أساليب العمل، لتحقيق التقدم الصناعي بتراكم المعرفة، وتفعيل الطاقات الكامنة لتلك الخبرة المتراكمة عبر الزمن، وتشجيع روح الإبداع، والابتكار في الوسط الصناعي، والأكاديمي, وتبادل الخبرات العربية المتراكمة، وتطوير برامج التعليم في الجامعات، وربطها بحاجات القطاع الصناعي، في إطار سياسة تعشيق رصينة، تقترب بواقع القطاع الصناعي الوطني من إمكانيات تجسيد تلك المعطيات بمخرجات صناعية مستولدة محليا، تعود بالنفع عليه بشكل عام، وتحرره من قيود تكامل حلقاته في السوق الخارجية كما هو عليه الحال الآن.
منقول للفائدة