نحو إستراتيجية وطنية لتفكيك الحزمة التكنولوجية
لعلَّ من نافلة القول الإشارة إلى أن الصناعة الناشئة في البلدان النامية، ومنها البلدان العربية بالطبع - تُواجه تحدِّيات كبيرة عند توريد ونقل التقنيات الصناعية، ولا سيما المتطورة منها، سواء ما يتعلَّق منها بتحدِّيات صعوبات الاختيار؛ بسبب نقص المعرفة الفنية أثناء التفاوض والتعاقُد، في مقابل تحدِّيات تركُّز الاحتكار المتخصِّص للمعرفة الفنية للمُصنِّعين والمورِّدين لتلك التقنيات، أو ما يتعلَّق بالمشاكل الفنية الميدانية في البيئة الصناعية الوطنية الناشئة؛ كالنقص الحاد في البنى التحتية، أو ما يستجدُّ منها من مشاكل مع زمن التشغيل العملي، مما يقع خارج المواصفات العقدية القياسية لمسلكها التكنولوجي، والمفاصل اللاحقة للصناعة، وما يترتَّب على هذه الظاهرة المقلقة من انعكاسات سلبية، سواء على مستوى كفاءة الأداء الصناعي، الذي يتجسَّد بنسب الضياع العالية من الطاقات التصميمية عند التشغيل الفعلي، أو على مستوى صعوبة امتلاك ناصية المعرفة الفنية اللازمة للتصنيع.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى تجاوز تلك المعوقات، وكسر الاحتكار كُلَّما كان ذلك ممكنًا، وذلك من خلال اعتماد إستراتيجية وطنية ذات كفاءة للتعامُل مع عملية نقل التكنولوجيات الصناعية باعتبارها - بجانب مسألة الاختيار العقدي لها - عمليةَ استيعاب بنيوية مجتمعية، وقدرةً فنيةً كامنةً على تطويع ما يُمكن تطويعه من حلقات مفاصلها، وليس مجرد سياقات مهنية، وأُطر فنية جامدة، تقف عند حد مجرد النقل التقليديِّ، والتدريب على التشغيل الآلي لها، بموجب ما يرد من معايير المجهز القياسية لاستخدامها في كتالوجات التشغيل والصيانة ليس إلا؛ ولذلك فإن عملية التوطين تُصبح ضروريةً، ويُمكن أن تبدأ بتجزئة الحزمة التكنولوجية الموردة إلى البيئة العربية، كلما أمكن ذلك، ومن ثم فإن عملية توطين الحزمة التكنولوجية ينبغي أن تعتمد أسلوبَ تطويع ما يُمكن تطويعه من حلقات ومفاصل المسلك التكنولوجي لنمط تلك الصناعة القائمة ابتداءً، في عملية تكييف جزئيٍّ مستمرة، تمضي بها نحو التوطين التدريجي، وذلك من خلال اعتماد وضع بدائلَ لها بالتصنيع المحلي، في ورشات عمل الصناعة المعنية، أو في معامل الصناعات الشقيقة، أو ورشات القطاع الخاص المحلي الوطني، وبإبداع وطني يرتكز على الخِبرات العملية، والمعارف الفنية المتراكمة، فيما يتعلَّق بالكثير من قطع غيار حلقات تلك الصناعة ذات المنشأ الاحتكاري الطابع، أو من خلال السعي الجاد لتعميم المواصفات ذات الطبيعة الاحتكارية للكثير من معدات حلقات المسلك التكنولوجي للصناعة القائمة، وقطع غياره، بعد إضافة التعديلات المطلوبة عليها التي استولدتها خبرةُ التشغيل والصيانة العملية لها، واستدراج عروض لها بالمواصفات العامة الجديدة بقصد تطويعها مع متطلَّبات البيئة المستقدمة لها من خلال تجزئة حزمتها التكنولوجية، وكسر احتكار الشركة الأم لها.
كما يُمكن التوجُّه للقيام بتنفيذ بعض الأعمال بالخبرات الوطنية، كأعمال الصب الكونكريتي والأعمال المدنية، وما إليها، وذلك بزج الخبرات الوطنية دون تردُّد في تنفيذها، وعدم الإبقاء على قصرها منوطة بالشركات المورِّدة، والعمل على اشتراط تلك الوظائف عند توقيع عقود التوريد.
كما يتطلب التوطين الانتباه إلى استقطاب الكفاءات الوطنية العربية إلى هذه الصناعة؛ إذ من الواضح أن الصناعة العربية عمومًا تُعاني من عجز الكادر الفنيِّ، ومن صعوبات تكوين الكفاءات العلمية، والأطر الفنية، كما أنها تُعاني في الوقت ذاته من إشكاليات تسرُّب تلك الكوادر بهجرتها إلى الخارج، سواء بسبب عدم توافر بيئة محلية ملائمة حاضنة لها، أو بسبب الإغراءات وسياسات الاصطياد الدولية التي تُفرغ ساحة الصناعة العربية من كوادرها الخبيرة مع مرور الزمن.
لذلك ينبغي أن يظلَّ هاجس الشعور بالحاجة الحقيقية لتكوين الكفاءات والخبرات الوطنية العربية - سواء لأغراض (الأداء المتخصِّص بالتشغيل)، أو للنهوض بمهام (إدارة نشاط تجزئة الحزمة التكنولوجية للتطوير والتوطين) - دافعًا لاستقطاب الكوادر الوطنية المؤهلة، الأكاديمية منها والصناعية، بموجب إستراتيجية استقطاب رصينة، مدعومة بنظام حوافزَ مادية ومعنوية متميِّز، قياسًا للمحفِّزات السائدة في القطاعات الصناعية الأخرى؛ وذلك للنهوض بإستراتيجية وطنية لتوطين الصناعة في المنطقة العربية، والتحرُّر من قيود الاحتكار المطلق لحلقاتها، تمهيدًا لولوج مرحلة التصنيع العربيِّ للتقنيات الصناعية جزئيًّا أو كليًّا في المرحلة التالية.
منقول للفائدة